ذكر مسيلمة في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي



ولما أراد الملك "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسد" "ملك سباً وذو ريدان وحضرموت ويمنت و أعرابها في الجبال والسواحل" بناء السدّ، أمر بنقش تاريخ البناء على جداره. وقد عثر عليه، وإذا به يقول: إن العمل كان في سنة 564-565 الحميرية، وهذا يوافق عامي 449-450 من الأعوام الميلادية. وبعد ثماني سنوات من هذا التأريخ، أي في عام 457-458 من التأريخ الميلاديَ "572 - 573حميري"، وضع عبد كلال نصاً تاريخياً يذكر فيه أسم "الرحمن"، ولهذين النصين أهمية عظيمة جدا من الناحية الدينة. يذكر النص الأول "إله السماوات والأرضين"، ويذكر الثاني "الرحمن". وتظهر من هذه الإشارة فكرة التوحيد على لسان ملوك اليمن وزعمائها.

-----------------------------------
وأما عبادة "الرحمن" "رحمنن"، فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة "رحمنن"، أي "الرحمن"، في نص يهودي كذلك وفي كتابات "ابرهة"، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود. ولعلهم استخدموا الكلمة في معنى اللّه. وإن ذكر علماء اللغة أو علماء التفسر أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية.
وقد جاء في النص اليهودي المذكور: "الرحمن الذي في السماء واسرائيل وإلهَ اسرائيل رب يهود". وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وان فكرة التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثر اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير ان من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى ان افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم اشارته بعد ذلك إلى إلهَ يهود، وورود كلمة "الرحمن" في نص آخر يعود إلى سنة "468" للميلاد. كتبه صاحبه شكراً للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود.
وقد ذكر بعض علماء اللغة ان "الرحمن" اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما "الرحيم" فعربية. وذكروا ان "الرحمن" اسم مخصص باللَه، لا يجوز أن يسمى به غيره. وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء: ألا ضربت تلك الفتاة هجينهـا  ألا قضب الرحمن ربي يمينهاْ
فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهويّ: عجلتم علينا عجلتينا عليكـم  ومايشأ الرحمن يعقدويطلق.
فإن ذلك يعني أن قوماً من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة "الرحمن". ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن "عامر بن عتوارة" سمى ابنه "عبد الرحمَن".
وقد وردت لفظة "الرحمن" في شعر ينسب إلى "حاتم الطائي" هو: كلوا اليوم من رزق الإلهَ وأيسروا  وإن على الرحمان رزقكم غـداَ
وحاتم من المتألهة، ويعده البعض من النصارى و "الرحمن" نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل "رحمونو"، Rahmono، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني ?  
"وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى ردّ الله عليهم ذلك بقوله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. ولهذا قال كفّار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة".
وذكر أن المشركين سمعوا النبيّ يدعو ربه، يا رينا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحداً، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يقال له الرحمان.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن ذلك الشخص الذي زعموا انه كان يُعرف ب "رحمن اليمامة". لكنهم ذكروا ان "مسيلمة الكذاب"، كان يقال له رحمان اليمامة. فهل عنوا ب "رحمان اليمامة" مسيلمة نفسه، أم شخصاً آخر كان يدعو لعبادة "الرحمان" قبله ? وورد ان قريشاً قالوا للرسول: "انا قد بلغنا انك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا". فنزل فيهم قوله: "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك، وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إلهَ إلا هو عليه توكلت واليه متاب". وذكر بعض أهل الأخبار: كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله.
وورد في بعض أقوال علماء التفسير ان اليهود قالوا: "ما لنا لا نسمع في القرآن اسماً هو في التوراة كثير. يعنون الرحمان، فنزلت الاية".
ويرى المستشرقون ان عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم.

وقد ذكر "اليعقوبي" أن تلبية "قيسى عيلان"، كانت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان،....
------------------------------------
ثم انه قال لهم: ان الملَك ينزل إليّ، والملائكة تطير وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهراً فليدخل منزله، فإنّ من تاًمل اختطف بصره ثم صنع راية من رايات للصبيان للتي تعمل من الورق الصيني، ومن الكاغد، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلق في صدورها الجلاجل، وترسل يوم الريح بالخيوط الطوال الصلاب. ثم أرسلها مع الريح، وهم لا يرون الخيوط، والليل لا يبين عن صورة الرق، وعن دقة الكاغد، فتوهموا أن ذلك الملائكة: وتصارخوا، وصاح: من صرف بصره ودخل بيته فهو آمن ! فاصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدفع عنه. فهو قوله: ببـيضة قــارورٍ ورايةِ شـــادن  وتوصيل مقصوص من الطير جادف
ونسب بعض أهل الأخبار "مسيلمة" على هذا النحو: "مسيلمة بنُ ثمامة ابن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل بن الدول بن حنيفة" و "مسيلمة الكذاب بن حبيب" ثمامة بن كبير، وجعله بعضهم "مسيلمة بن حبيب". وجعلوا كنيته "أبا ثمامة" وقيل "أبا هارون" و "أبو ثمالة". وذكروا أنه كان يسمى ب "الرحمان" قبل مولد "عبد الله" والد رسول الله، "وكانت قريش حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلم:  
دق فوك، إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة ". وذكروا أنه دعا إلى الرحمان، أي إلى عبادة الرحمان. بينما عرف نفسه ب "الرحمن"، فقيل له: "رحمان اليمامة". وأنه دعا إلى عبادته هذه قبل النبوة، وقد عرف أمره بمكة، فلما نزل الوحي على الرسول، قال أهل مكة إنما أخذ علمه من "رحمان" اليمامةّ. وقالوا له: ألا إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبداً ". فأنزل الله سبحانه: وهم يكفرون بالرحمن. قل: هو ربي. كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، ثم أحد بني الدول قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين. ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله ابو رسول الله صل الله عليه وسلم.
قال "الواحدي" في أسباب نزول الاية: "وهم يكفرون بالرحمن.
قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب : قال أهل التفسير : نزلت في صلح الحديبية ، حين أرادوا كتاب الصلح . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو والمشركون : ما نعرف الرحمن ، إلا صاحب اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب . اكتب باسمك اللهم . وهكذا كانت الجاهلية يكتبون ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية
وذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا }  ، أن مسيلمة كان يدعى الرحمن . فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، اسجدوا للرحمن قالوا : أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة بالسجود له. أو أنهم قالوا : ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة . يعنون مسيلمة الكذاب  .
ولا يعقل قول من قال إن مسيلمة كان يعرف بـ الرحمن قبل ولادة عبد الله والد الرسول . أما أنه كان أسن من الرسول فلا غرابة في ذلك ، ولكني لا أرى أنه كان أكبر من الرسول بعشرات السنين . ومن الجائز أن يكون قد دعا إلى عبادة الرحمن ، وهي عبادة كانت شائعة معروفة إذ ذاك ، في اليمامة وفي غير اليمامة ، فعرف بين قومه بـ رحمن اليمامة ، وذلك قبل نزول الوحي على الرسول ، فسمع أهل مكة بدعوته .
وورد في رواية أن أبا جهل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول : يا الله يا رحمن . فقال : كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة ، وهو يدعو إلهين . فنزلت هذه الآية ، : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن }  .
وفي هذا الخبر إن صح، دلالة على أن أهل مكة كانوا قد سمعوا بعبادة الرحمن وأنهم سمعوا أن قوما من الجاهليين دعوا إلى عبادته ، وأن أبا جهل كان قد سمع قولهم ، ولهذا أخذ على النبي قوله : يا الله يا رحمن . ولا يعقل ألا يكون لأهل مكة علم بعبادة الرحمن التي تحدثت عنها في موضع آخر ، وقد كان لهم اتصال باليمن وباليمامة وبمعظم أنحاء جزيرة العرب. وأرى أن "مسيلمة" كان قد دعا إلى عبادة الرحمن متأثرا ًبدعوة المتعبدين له ممن كان قبله على ما يظهر، وهي عبادة إلهَ اسمه "الرحمن" فعرف مسيلمة ب "الرحمن" وب "رحمن اليمامة". وعبادة الرحمن ديانة متأزرة بفكرة التوحيد، وبوجود إلهَ واحد هو "الرحمن" رب العالمين..

وقد أشير إلى موضع اسمه "وادي ا الرحمن" في الكتاب الذي أعطاه رسول الله الى "يزيد بن المحجل" الحارثي، ورد فيه: "ان لهم غرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها". ولا أستبعد احتمال وجود صلة بين هذه التسمية وبين الرحمن الإلهَ.
وقد وصف الرواة "مسيلمة" باًنه "كان قصيراً شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس.

ويظهر من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن "مسيلمة" أنه كان أكبر عمرا من الرسول. وأنه كان قد تكهن وتنبأ باليمامهّ ووجد له أتباعا قبل نزول الوحي على النبيّ. وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته.
 ويذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان ابن ماثة وخمسين سنة حين قتل. وهو عمر قد بولغ فيه ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون في هذه السن يوم قتل، فقد كان فعالاً نشيطاً، نشاطاً لا بمكن أن يظهر إلاّ من رجل قويّ فعال، هو دون المائة.
وكان "مسُيلمة" يدعي أن معه رئياً في أول زمانه، ولذلك قال الشاعر حين وصفه: بيبضة قارور وراية شادن  وخلة جني وتوصيل طائر
وكان "مسيلمة" في. جملة رجال "وفد حنيفة" الذي قصد الرسول، وفيهم "رحال بن عنفوة".
لكنه - كما يقول الرواة - لم يذهب مع الوفد إلى الرسول، بل بقي مع رجال الوفد يبصرها لهم. فلما قرروا العودة، بعد أن أسلموا وأعطاهم جوائزهم، قالوا: "يا رسول الله إنا خلفنا صاحباً لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به لأصحابه وقال: ليس بشركم مكاناً لحفظه ركابكم ورحالكم، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: عرف أن الأمر لىّ من بعده. فلما عادوا إلى ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وشهد "رحال بن عنفوة" "الرحال بن عنفوة"، أن رسول الله، أشركه في الأمر، فتبعه الناس. وكان "الرحال" قد تعلم سوراً من القرآن، فنسب إلى "مسيلمة" بعض ما تعلم من القرآن، فكان من أقوى أسباب الفتنة على "بني حنيفة". قتله "زيد بن الخطّاب"، يوم اليمامة.
وذكر "الطبري"، أن "مسيلمة" كان يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح. "وكان معه نهار الرجّال بن عنفوة" وكان قد هاجر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمداً، صلى الله عليه وسلم، يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي، صلى الله علبه وسلم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال ابن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه ؛ وكان ينتهي إلى أمره. وكان الذي يؤذن له: عبد الله بن النواحة، وكان الذي يقُيم له "حجير ين عمير"، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتّصديق نفسه، وتصديق نهار وتضليل منَ كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم. فجعل "الطبري" اسم مساعد "مسيلمة" "نهار الرجال بن عنفوة"، لا "الرحال ين عنفوة" "رحال بن عنفوة كما في الموارد الأخرى. لكنه عاد فدعاه "الرجال" تارة و "رحال بن عنفوة" تارة أخرى، حينما تكلم عنه وعن.نهايته. وذلك في أيام "أبي بكر"، أي في حوادث السنة الحادية عشرة. وأظن أن مرد هذا الاختلاف لا يعود إلى "الطبري نفسه، بل إلى النساخ والى الطبع.
وقد أورد "الطبري" رواية أخرى في كيفية قدوم "مسيلمة بن حبيب" على رسول الله. فذكر "ان بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تستره بالثياب، ورسول الله جالس في أصحابه، ومعه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، فقال له رسول الله: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما اعطيتك !. ولم يشر "الطبري" إلى أسماء من جاء معه من وفد بني حنيفة، وقد ذكر بعد هذه الرواية الرواية السابقة التي ذكرناها، دون أن يشير إلى اسماء رجال الوفد. ثم قال بعد ذلك: "ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله، فلما انتهى إلى اليمامة ارتدّ عدو الله وتنباً وتكذّب لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده: ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني: أما انه ليس بشرّكم مكاناً ! ما ذلك إلا لما كان يعلم اني قد أشركت معه، ثم جعل يسجع السجعات، ويقول لهم فيما يقول، مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. ووضع عنهم الصلاة، وأحلّ لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك".
ولا يتفق ما ذكره "الطبري" من وضع "مسيلمة" الصلاة عن أتباعه، مع ما أورده هو من اتخاذه مؤذناً يؤذن بين الناس، ومن اتخاذه "مقيماً" يقيم له الصلاة، ئم مع ما ذكره غيره من أنه قلّص الصلوات الخمسة، فجعلها ثلاثة صلوات في اليوم. ولا يوجد دليل على تحليله الزنا والخمر.

وذكر ان "مسيلمة"، بعد ان عاد إلى قومه كتب كتاباً إلى الرسول فيه : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوماً يعتدون". فكتب اليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين". وقدم بكتاب مسيلمة رجلان، فساًلهما رسول الله عنه فصدّقاه، فقال: أما والله لولا ان الرسل لا تقتل لقتلتكما.
وتذكر رواية أخرى ان مسيلمة قال للرسول يوم وفد عليه مع من وفد من رجال "حنيفة": "إِن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك على انه لنا بعدك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ولا نعمة عين ولكن الله لقاتلك". وتذكر رواية أخرى ان "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة. " قد كتب إلى النبي، أن يجعل له الأمر من بعده على من يسلم ويصير اليه "فينصره، فقال رسول الله: لا ولا كرامة اللهم اكفنيه، فمات بعد قليل.
وروي ان رسول اللّه، بعث "حبيب بن زيد بن عاصم" أحد "بني النجار و"عبد الله بن وهب الأسلمي" إلى مسيلمة، فلم يعرض لعبد الله، وقطع يدي حبيب ورجليه.   
وذكر ان رسولي مسيلمة اللذين حملا كتابه إلى الرسول، كانا "ابن النوّاحة و "ابن أثال"، وانهما قالا لرسول الله: نشهد ان مسيلمة رسول إلله. فقال الرسول: لو كنت قاتلاً رسولاَ لقتلتكما. فعادا إلى صاحبهما، وذكر "الطبري" أن "مسيلمة" ضرب حرماً باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محرماً، فوقع في ذلك الحرم قُرى الأحاليف، أفخاذ من بني أسيد، كانت دارهم باليمامة فصار مكان دارهم في الحرم"، فصاروا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، ويتخذون الحرم دغلاً، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون، فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: انتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم. فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ا ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى. فقال: انتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس. فقالوا: أما النخل مرطبة فقد جدّوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم".
وقد أورد أهل الأخبار كلاماً زعموا أن "مسيلمة" نظمه مضاهاة للقرآن. من ذلك قوله: "يا ضفدع نقيّ كم تنقين ! نصفك فْي الماء ونصفك في الطين ! لا الماء تكدرين، ولاَ الشارب تمنعين". "وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فاًمرهم إلى الرحمان". "وكان يقول: والشاة وألوانها، واعجبها السود والبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فمالكم لا تمجعون". "وكان يقول: "يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين". "وكان يقول: والمبذّرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه". وذكر بعض أهل الأخبار أن "أبا بكر" لما سأل وفداً من "بني حنيفة" أرسله "خالد" اليه عما كان يقوله لهم: "قالوا: كان يقول يا ضفدع نقي نقي، لا للشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون".
ويظهر من أسلوب هذه الأيات المنسوبة إلى "مسيلمة"، انها محاكاة ومضاهاة للايات الأولى من القرآن الكريم، الآيات للتي نزلت بمكة في عهد الرسالة الأولى.
وهي بذلك تختلف عن أسلوب الوحي المنزل بعد الهجرة بالمدينة. ولم نجد فيما بقي من كتب أهل الأخبار ما يشير بشيء إلى "قرآن مسيلمة"، أو إلى بقية أخرى منه.
هذا ولا بد لي من التنبيه إلى اننا لا نستطيع التأكيد بان ما نسب إلى مسيلمة من كلام، هو حق وصحيح. فمن الجائز أن يكون قد وضع عليه وضعاً. وقد رأينا كيف انهم اختلفوا في رواية "يا ضفدع" اختلافاً بينا في ضبط العبارات.
وكان الناس يقصدون "مسيلمة" ليسمعوا منه، بعد ان اشتهر امره. وقد تمكن من التأثير في بعضهم. وكان ممن قصده "المتشمس بن معاوية"، عم "الأحنف بن قيس" الشهير. فلما خرج من عنده قال عنه انه كذاب. وقال عنه "الأحنف"، وقد رآه ايضاً، وقد سئل كيف هو ? ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبىء حاذق.

وذكر أهل الأخبار ان مسيلمة كان صاحب "نيرجات" و. تمويه واحتيال. يدًعي المعجزات والآيات، وانه أول من أدخل البيضة في القارورة، وأول من وصل جناح الطائر المقصوص، وكان يدّعي ان ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها. وقد جربه قوم، فوجدوا آياته "منكوسة. تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركاً، فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فقرع قرعاً فاحشاً، ودعا لرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب. ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه"، ومسح وجه "أبا بصير"، وهو صبي من "بني يشكر بن وائل"، وكانوا أتوا به "مسيلمة"، فعمي، فكنى "أبا بصير"، وكان يروى عنه. وأتته امرأة من بني حنيفة، تكنى بأم الهيثم، "فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع الله لمائنا ولنخلنا، كما دعا محمد لأهل هزمان"، فدعا بسجل، ودعا لهم فيه، ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار. ثم سقوه نخلهم، فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم. وقد ذكر "الطبري" هذه الملاحظة: "وانما استبان ذلك بعد مهلكه".
وروى " الطبري "، أخبارا أخرى من هذا النوع، ذكر ان " نهاراً" قال له: برك على مولودي حنيفة، فقال له: وما التبريك ? قال: كان أهل الحجاز اذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداً فحنّكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ. وذكر ان "نهاراً" قال له: توضأ واعطِ وضوءك إلى أصحاب الحيطان، أي البساتين كمايفعل محمد، فأعطى أحدهم وضوءه، فسقى به حائطه، فيبست أشجاره، وصارت الأرض يبابأَ لا ينبت مرعاها. وأعطى "مسيلمة" رجلاً سجلاً من ماء، وكانت أرضه سبخة، فأفرغه في بئره، فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيه، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها.
وقد عرف "مسيلمة" بين أتباعه ب "رسول الله"، وكانوا يتعصبون له، ويؤمنون به إيماناً شديداً. وذكر أن "طلحة النميري" جاء إلى اليمامة، فقال: "اين مسيلمة ? قالوا: مه.. رسول اللّه! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه. قال: أنت مسيلمة ?قال: نعم. قال: من يأتيك ? قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة ? فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنّك لكذّاب وأن محمداً صادق، ولكن كذّاب ربيعة أسب احب إلينا من صادق مضر "، أو "أنه في قال: كذاب ربيعة أحب اليّ من كذّاب مضر"، فقتل معه" "يوم عقرباء".

ويظهر من بعض ملاحظات "الطبري" عن هذه الأخبار، أنها إنما ظهرت، وقيلت بعد هلاك "مسيلمة ". فقد قال في موضع: " وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم"، وقال في موضع آخر: "وانما استبان ذلك بعد مهلكه "، و " استبان ذلك بعد مهلكه ". ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة بالطبع في تقييم هذه الروايات وصحتها، فالعادة أن من يفشل ويهلك لا سيما اذا كان قد نال حظاً من المكانة والجاه والاسم، يحمل عليه كثيراً، ولا يتورع حتى أصحابه ومن كان يؤمن به من الدس عليه.
واتخذ "مسيلمة" مؤذناً يؤذن له في اتباعه اسمه "حجير". "وكان أول ما أمر أن يذكر مسيلمة في الاذان، توقف. فقال له محكم بن الطفيل: صرح حجير، فذهبت مثلا ً". وكان "محكم بن طفيل الحنفي" صاحب حربه ومدبر أمره، وكان أشرف منه في حنيفة. وذكر "الطبري"، أن الذي كان يؤذن له "عبد الله بن النوّاحة"، وكان الذي يقيم له حُجير بن عمير، ويشهد له. وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال صرح حجير، فيزيد في صوته ويبالغ لتصديق نفسه. وذكر أن مؤذنه "حجير"، كان إذا أذن يقول أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فيقول مسيلمة له: أفصح حجير، فذهبت مثلاً.

ورووا أنه تزوّ ج "سجاح" التي تنبأت، وهي تميمة من "بني يربوع"، وكان يقال لها "صادر" وكان لها مؤذن، يقال له "زهير بن عمرو"، من "بني سليط بن يربوع"، ويقال إن "شبث بن ربعي" أذن لها.
وذكروا أنها كانت كاهنة زمانها، تزعم أن رئيها ورئي سطيح واحد، ثم جعلت ذلك الرئي ملكاً حتى ادعت النبوة، فاختلفت مع "مسيلمة" وكذبته وجحدت نبوته، فلما اتصلت به وتزوجته، وهبت نفسها له. فقال لها فيما زعموا: ألا قومي إلى المخدع  فقد هيىّ لك المضجع
فإن شثت سلَـقـنـاك  وان شئت على أربع
وإن شئتَ بثـلـنة  وإن شئت به أجمع
فقالت بل به أجمع. فجرى المثل بغلمتها حتى قيل أغلم من سجاح.
وفيها قال قيس بن عاصم، وقيل عطارد بن حاجب بن زرارة: اضحت نبيتنا أنثى نطيف بهـا  وأصبحت أنبياء ألله ذكـرانـا
يا لعنة الله والأقوام كـلـهـم  على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لاسقـيت  أصداؤه ماء مزن حثما كانـا
ولما قتل "مسيلمة" رثاه بعض شعراء بني حنيفة بقوله: لهفي عليك أبـا ثـمـامة  لهفى على ركني تهـامة
كم آية لـك فــيهـــم  كالشمس تطلع من غمامة
قتله "وحشي" قاتل حمزة.
وذكر أهل الأخبار ان "مسيلمة" كان قد تزوج "كبشة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس" "كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، ثم تركها فخلف عليها "عبد الله بن عامر بن كريز"، فولدت له. ويظهر انها لم تلد من "مسيلمة".


والذي يقرأ ما ذكره "الطبري" عن "مسيلمة" وعن صلة "نهار" به، يخرج بصورة تظهره شخصاً جاهلاً بليداً، يحركه ويوجهه "نهار" حيث يريد، لا يفهم ولا يعقل، ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يتخذ رأياً حتى يشير عليه "نهار" به. "فكان نهار الرجّال بن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه". وهي صورة تخالف ما نقرأه عنه في الموارد الأخرى. ولو كان "مسيلمة" على نحو ما صوّره الطبري، لما التفت حوله "بنو حنيفة"، ولما استماتوا في الدفاع عنه. ولما ضحى "الرحال بن عنفوة" و "محكم بن الطفيل" وغيرهما بأنفسهم في الدفاع عنه. حتى ان منهم من بقي مؤمناً به حتى بعد مقتله، وتغلب المسلمين على اليمامة.
وقد كتب الجاحظ قصة مسيلمة وقصة "ابن النواحة"، ولعلّه قصد به "عبد الله بن النواحة" مؤذنه، في كتابه المفقود حتى اليوم "فصل ما بين النبي والمتنبيّ"، حيث ذكر جميع المتنبين. وذكر "البلاذري" أن "مسيلمة"، كان قد أرسل كتابه الذي كان وجهه إلى الرسول والذي فيه "من مسليمة رسول الله، الى محمد رسول الله، أما بعد: فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً لا ينصفون، والسلام عليك. وكتب "عمرو بن الجارود الحنفي"، مع "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة، وهو "ابن النواحة " الذي قتله عبد الله بن مسعود بالكوفة.
وكان "مسيلمهّ قد أمر "عمرو بن الجارود الحنفي"، بتدوين كتابه الذي وجهه إلى الرسول، فأمر الرسول كاتبه "أُبي بن كعب" بالردّ عليه. ومعنى هذا أن مسيلمة كان قد اتخذ له كتبة يكتبون له رسائله، على نحو ما كان لرسول الله.
وأنا لا استبعد احتمال علم "مسيلمة" بالكتابة والقراءة. وإن لم ينص أهل الأخبار على ذلك. كما لا استبعد احتمال، التقائه باليهود وبالنصارى وأخذْه منهم، فقد كان في اليمامة قوم من أهل الكتاب، ودعوته الى عبادة إلَه هو "الرحمن"، تدل على تأثره بأتباع هذه الديإنة وبأهل الكتاب.
هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبراً يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير إلى قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبياً مرسلاً من "الرحمن" وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: "ردة مسيلمة"، أو "ارتداد مسيلمة"، أو نحو ذلك، لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد.
وكان "مجاعة بن مرارة" الذي نزل عليه "مسيلمة"، من رؤساء "بني حنيفة" وممن وفد على الرسول، فأعطاه النبي أرضاً باليمامة يقال لها "الغورة"، وكتب له بذلك كتاباً. وذكر بعض أهل الأخبار انه كان بليغاً حكيماً وقد أسر "يوم اليمامة"، فتوسط له بعض وجوه "بني حنيفة"، لدى خالد أن يبقيه، فارسله إلى "أبي بكر"، فصفح عنه. وقد كان قد انجرف مع من انجرف فمال إلى "مسيلمة" وأيده، وحارب معه. وله شعر أشار فيه إلى مسيلمة، ونعته فيه ب "الكذاب". ولما وفد على "أبي بكر." اقطعه "الخضرمة"، ثم قدم على عمر، فاًقطعه الرياء، ثم قدم على عثمان، فأقطعه قطيعة أخرى.
وأما "الرحال بن عنفوة" "رحّال بن عنفوة"، فهو "نهار الرجال بن عنفوة"،"الرجّال بن عنفوة" في تأريخ الطبري. وهو من وجوه "بني حنيفة" واسمه "نهار"، وكان في الوفد الذي جاء إلى الرسول، وقد اختلف إلى " أبيّ بن كعب" ليتعلم منه القرآن. وكان رئيس وفد "حنيفة" "سلمى بن حنظلة". وقد تعلّم سورة البقرة وسورأَ من القرآن. وذكر انه كان على غاية من الخشوع واللزوم لقراءة القرآن والخير، ثم انقلب على عقبيه وصار من أشد أعوان مسيلمة المقربين له، فشهد له ان الرسول أشركه معه في الأمر. وكان احد وفد "بني حنيفة" إلى رسول الله، وفيهم "فرات بن حيان".
وأما "محكم بن طفيل بن سبيع" الحنفي، فقد كان من أشراف وسادات "بني حنيفة". وهو اشرف من مسيلمة في حنيفة. وكان من المقدمين عند مسيلمة. وقد عهد " مسيلمة" اليه قيادة احدى المجنبتين في قتاله مع "خالد ابن الوليد". وقد عرف ب "محكم اليمامة". وقد قتل وهو يحارب المسلمين. "قتله خالد بن الوليد يوم مسيلمة".



وأما "فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب" العجلي، فكان عيناً لأبي سفيان في حروبه، وكان ممن هجا الرسول، ثم أسلم ومدحه، وأقطعه الرسول أرضأَ باليمامة.، ثم سكن الكوفة وأقام بها. وكان في حرب الخندق عيناً للمشركين.
وأما أثال بن النعمان الحنفي، فكان مع "فرات بن حيان" حين قدم المدينة وقد كلّم الرسول. وذكر في رواية أنه كان مع ثمامة بن أثال في قتال مسيلمة في الردة.
وكان "ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي"، من قدماء من أسلم من أهل اليمامة. فقد أرسل رسول الله خيلا قبل نجد، فجاءت به، فربطوه بسارية من سواري المسجد بيثرب، فكلمه الرسول، ثم امر فأطلق من رباطه، فدخل في الإسلام، وأمره ان يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت ! قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة، حتى يأذن فيها النبيّ. ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً. فكتبوا إلى النبيّ: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمآمة أن يخلي بينهم وبن الحمل اليهم. وكانت ميرة قريش من اليمامة ومنافعهم منها، وكانت ريف مكة. ولما ارتد أهل اليمامة، وصاروا مع مسيلمة، ثبت أثال على الإسلام فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، فلما عصوه وأصفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ففارقهم ولحق بالعلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين من اهل البحرين، فلما ظفروا اشرى ثمامة حلة كانت لكبيرهم:  "الحطم" فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة"، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه. وقد رووا له شعراً في الرسول وفي الردة. وكان له عم اسمه "عامر ابن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي". وقد كان مسلماً.
وجاء في رواية ان رسول الله لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى في رجب سنة تسع، فاسلم المنذر ورجع العلاء، فمر باليمامة، قال له ثمامة بن أثال: انت رسول محمد ? قال نعم. قال: لاتصل اليه ابداً، فقال له عمه: عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي: مالك وللرجل، فأسلم عامر، ووقع ثمامة بعد ذلك في الأسر.



هذا هو كل ما ورد إلى علمنا عن الأنبياء العرب في الجاهلية. وقد حصلنا عليه من المؤلفات الإسلامية. أما نصوص جاهلية، فيها شيء عن النبوة والأنبياء، فلم يصل إلينا منها أي شيء.

--------------------

وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلىّ ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوُجه اليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك اشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بتي نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره ?فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الإختلاف فطرياً في "العرب فلم يلتفتوا إليه".
فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، واذا كان الصحابة ومنهم ا الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهماً صحيحاً، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدونون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام ?.
وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطها في "حجة الوداع" تجدها وقد رويت بصور مختلفة، وفي هذا الاختلإف دلالة بينة على انها لم تنقل من أصول مكتوبة، وانما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلاً وقوعه أبداً. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، واذاعتها بين الناس، لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي باًهميهَّّ تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفاً آنذاك. ولهذا جائت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قد يقع له من أمور لأصدقائه، وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطريقة وصلت الأخبار إلى المدونين عندما بدئ بالتدوين.وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للاحداث. وليس من المعقول أيضا" وصولها سالمة تقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما محتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما اجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحداً يقول إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها، أهم عند العرب من حفظ حديث الرسول وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن. وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى ب "أبي ثمامة"، والمنعوت بين المسلمين ب "الكذاب". واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي انه صنع قرآناً مضاهاة للقرآن، غير انهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. واذا صح ما ذكره أهل الأخبار من انه ادعى الوحي بمكهَ أو باليمامة قبل الإسلام، وانه نزّ ل على نفسه آيات زعم انها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي.
وذكر إن في حقه نزلت الاية: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه بشيء. ومن قال سانزل مثل ما أنزل الله". فقد ذكر علماء التفسير إن عبارة: لا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه بشيء"، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. ومن قال: ساًنزل مثل ما أنزل الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي صرح، أخي بتي عامر بن لؤي، ءكان يكتب، للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حول، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام م، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء". وكَان من حديث "سيلمة" إن قريشاً قالت للرسول: "بلغنا انه انما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان ابداً"، وذكر أهل الأخبار إن قريشاً "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك، انما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "انهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن ? هو كاهن اليمامة !". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضاً فيه: رحمان اليمامة.
وأنا لا أستبعد احتمال مجيئه إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر انه تزوج "كبشة" "كيسة بئت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئه. إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان": وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان رجَآل بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حبَله، والساعين في نصرته، وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشاً بأحق بالنيوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما ينزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما ييلغهم عنه من قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يوماً خطيباً، فقال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذاب في ثلاثين كذاباً قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيبه و تصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذلول في تقوية أمره ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنّه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومنجلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها".

. "ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الثرى، ومنهم من يعيش ويبقى إلى أجل ومنتهى، والله يعلم السرّ وأفى، ولا تخفى عليه الآخرة و الأولى ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجاً، والغيث ثجاجاً، وجعل لكم كباشاً ونعاجاً، وفضة وزجاجاً، وذهباً وديباجاً، ومن نعمته عليكم ان أخرج لكم من الأرض رماناً، وعنباً، وريحاناً، وحنطة و زؤا ناً. " وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله" "وكان رجال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مراراً، وقرأ القرآن وأظهر الايمان، وأسرّ الكفر. ويروى إن للنبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في "أصحابه إذ سمع وطئاً من خلفه، فقال: هذا وطء رجل من أهل النار، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على اي صلى الله عليه وسلم - وفيهم مسيلمة إلا انه لم يلقه - وأظهروا الإسلام وأرادوا ألانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: هل بقي منكم أحد ? قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا - يعنون مسيلمة - فقال صلى الله عليه وسلم: ليس بشرَكم مكاناً. فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم:.قد سمعتم قول محمد في ": ليس بشركم مكاناً، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّ ق ومكذب، وراضٍ وساخط، وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتاباً قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرىء الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: ما.تقولان ? قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: أما والله لولا إن الرسل لا يقتلون لقتلتكما.
واملي في الجواب: من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتاباً يذكر فيه انه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بتي حنيفة.
وبلغ من تبركهم به انهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم،ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يساله إن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه.
وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يوماً لأصحابه: إن محمداً لا نبي معه ولا بعده، كما إن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسلمة: يا ضفدع نقي نقي، كم تنقين ! لا الماء تكدرين، ولا الشرب تمنعين،من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: حم. تنزيل الكتآب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا.
وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين". وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول ? فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نفي كم تنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين... في كلام من هذا كثير. فقآل أبو بكر ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج من إل " ولا بر، فاين ذهب بكم"?، أو آنه قال: "هذا كلام ما اتى من عند آل، أي من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، واسماعيل". وقيل الإل: الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي لم يجىء من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى: "لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة". وقول حسان: لعمرك إن إلك من قـريش  كإلء السقب من رأل النعام
وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول، "أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستوراً ومن عيَ لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالحابزات خبزاً، والثاردات. ثرداً، واللاقمات لقماً... ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة". والطري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك اما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقأ، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أموراً كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات أما قرآنه الذي قيل إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك بهلاكه، ولم أجد أحداً ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعله كان كلاماً. لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظاً في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن.

وقد دون "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات ز رَعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقَماً، إهالة وسمناً... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر،ريفكم فامنعوه، والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"..
ونسب "الرافعي" له قوله "والشاء وألوانها، واعجها السود والبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، انه لعجبَ محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون.
وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي انه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا"، أو انه قال: "ألم ترَ إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى". روي انه قال هذه الآيات لسجاح لما اراد الدخول بها، فقالت:"، وماذا أيضاً ? قال: أوحى إلي: إن الله خلق النساء أفراجأ، وجعل الرجال لهن ازواجاً، فنولج فيهن قُسعاً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً انتاجاً. قالت أشهد انك نبي، قال: هل لك إن أتزوجك فآ كل بقومي وبقومك العرب ! قالت: نعم، قال: ألا قوفسا إلى الـنـيك  فقدُ هبي لك المضجع
وإن شئتِ فقي البـيت  وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقـنـاك  وإن شئت على أربع
وإن شئت بثـلـثـيهَ  وإن شئت به أجمع


قالت: بل به اجمع.،قال بذلك اوحى إليّ فأقامت عنده ئلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك ? قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئاً ? قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: ما لك ? قالت أصدقني صداقاً، قال: من مؤذنك ? قالت: شبث بن ربعى الريآحي، قال: علي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الاخرة وصلاة الفجر". وأما "سيف" فذكر انه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلا"ت اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة.
وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: اخبرني بما ياًتيك به جبريل ? فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجاً، وجعل الرجال لكن أزواجاً، يولجن فيكن إيلاجاً، لا ترون فيه فتوراً ولا إعوجاجاً، ثم يخرجونه منكن إخراجاً، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبي مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغبير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاهّ العشاء والصبح لأجل المهر. - وزعم أن "من قرآن مسيلمة التي يزعم أنه نزل عليه، لعنة الله عليه: والنازعات نزعاً، والزارعات زرعاً، والحاصات حصداً،، والذاريات ذرواً، فالطاحنات طحناً، والنازلأت نزلاً، فالجامعات جمعاً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، فالاكلات أكلاً، والماضغات مضغاً، فالبالعات بلعاً".
وقد اتخذ قتل "مسيلمهّ" فخراً، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قفىّ لمعاوية بقتل مسيلمةْ، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.
ويظهر إن بني حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب امره.
ففي خبر ينسب إلى "ابن معيز" السعدي انه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون انه نبي، فأتى "ابن مسعود" فاًخبره، فبعث اليهم الشرط، فجاموا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه. هذا، ويدل تعلق "بني حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمهَ، واستماتتهم في الدفاع عنه، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على انه كان شخصية موثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا انه لم يذكر إن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وانما ذكر انه "كان قد اسلم ثم ارتد فاستتابه عبدالله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردته". امم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" احد بني عامر بن حنيفة.

ويروى إن "الألخل" الضبعي، قال في مسيلمة:

 لهفاً عليك أبا ثـمـامة  لهفاًعلىُ ركني شمامه
كم آية لـك فـيهـــمُ  كالبرق يلمع في غمامه

وكان "الضبعي" شاعراً، زعم انه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره: لنا شطر هذا الأمر قسمهّ عادل  متى جعل الله الرسالة ترتبـا
اي راتبة في واحد، وسئل "الأحنف بن قيمس" رأيه في مسيلمة، فقالا: "ماهو بنبي صادق ولا بمتنبىء حاذق.

وانا لا استبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآناً" أو كتاباً أو سفراً، أو شيئاً آخر، ولكني استبعد صحة هذه الايات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مئل: آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أفها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيراً فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها. وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه! وقد ذكر "ابن النديم" إن لابن الكلبي مؤلفاً خاصاً ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب، لم يصل الينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه: "كتاب أيام بني حنيفة"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه: "كتاب أيام قيس بن ثعلبة".
وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: والحمام واليمام، والصرد والصو ام، قد صمن قبلكم بأعوام، "ليبغن ملكنا العراق والشام". وروى "الطبري" سجعاً من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: لا لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلامن حنف، فاحمل المنصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذطمع، ولا زال اًمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ضمن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحباكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجاّر، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم و الأمطار.


وقال أيضاً: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تاًتون، ولا الخمر تتشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يوماً، وتكلفون يوماً، فسبحان الله !إذا جاءت الحياة تحيون، والى ملك السماء ترقون ! فلو انها حبة خردلة، لقام عليها شهيد بعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور وكان مما شرع لهم مسيلمة إن من أصاب ولداً واحداً عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنأَ ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ولد ذكر و بلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم: "وقل لهم في أنفسم قولاَ بليغاً". والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه. سأل "معاوية" "صحار بن عياش" العبدي"، ما البلاغة ? فقال: لا تخطىء ولا تبطىء. أو أنه قال له: ما البلاغة ? قال: الإبحاز. قال: ما الايجاز ? قال: أن لا تبطىء ولا تخطىء وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته،-فقال له: ما هذه البلاغة فيكم ? قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده.
وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: " كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح"، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحياناً خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثراً كان أو كان شاعراً.

_________________

مسيلمة عليه الصلاة والسلام