مسيلمة في البداية والنهاية لابن كثير



قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد

بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب ( ٩) وعبد الله، وابنها خبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل

يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول نعم، فيقول أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول لا أسمع فجعل يقطعه عضوا

عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة

.ورجعت وﺑﻬا اثني عشر جرحا من بين طعنة وضربة رضي الله عنها،...

______________________________________________




قال لي جبير أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد، ( ١): إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق.

قال فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ ﺑﻬا شيئا، فلما التقى الناس

خرجت انظر حمزة واتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الاورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شئ،

فوالله لا ﺗﻬيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة قال

هلم إلي يا بن مقطعة البظور، قال فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها

عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته

فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لاعتق، فلما قدمت مكة عتقت

ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف فمكثت ﺑﻬا فلما خرج وفد الطائف

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيت علي المذاهب فقلت الحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد فوالله

إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق،

قال فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرعه إلا بي قائما على

رأسه أشهد شهادة الحق فلما رآني قال لي: أوحشي أنت ؟ قلت نعم يا رسول الله.

قال اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة ؟ قال فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال ويحك غيب عني

وجهك فلا أرينك، قال فكنت أتنكب برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله

عزوجل، فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت ﺑﻬا

حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما وبيده السيف وما أعرفه فتهيأت له وﺗﻬيأ له رجل من الانصار من

الناحية الاخرى كلانا يريده فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه، وشد عليه الانصاري

بالسيف

فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته، فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت شر الناس.

______________________________________________


إلى أن قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت لاخرج إلى مسيلمة لعلي أقتله

فأكافئ به حمزة، قال فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان

قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من

كتفيه، قال ووثب إليه رجل من الانصار فضربه بالسيف على هامته، قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن

يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت: واأمير المؤمناه قتله العبد الاسود، قال ابن

هشام فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت إن الله لم

يكن ليدع قاتل حمزة.

قلت: وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة ويقال أبو حرب بحمص ( ٢) وكان أول من لبس الثياب المدلوكة

______________________________________________________

قصه ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب قال البخاري: باب وفد بني حنيفة وقصة ثمامة بن أثال: حدثنا

عبد الله بن يوسف،

حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد

فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله

عليه وسلم فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ قال عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم.

وان تنعم تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت.

فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: " ما عندك يا ثمامة) ؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه

حتى بعد الغد فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ فقال عندي ما قلت لك.

فقال: " أطلقوا ثمامة " فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد.

فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الارض وجه أبغض إلي من

وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك بأحب الدين

إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة

فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت ؟ قال: لا

! ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى

.( الله عليه وسلم ( ١

وقد رواه البخاري في في موضع آخر ومسلم وأبو داود والنسائي كلهم عن قتيبة عن الليث به.

وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق فربط

بسارية من سواري المسجد ثم في ذكره مع الوفود سنه تسع نظر آخر.

وذلك أن الظاهر من سياق قصته أﻧﻬا قبيل الفتح لان أهل مكة عيروه بالاسلام وقالوا أصبوت فتوعدهم بأنه لا يفد

إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك

دار حرب، لم يسلم أهلها بعد والله أعلم، ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة وهو أشبه

ولكن ذكرناه هاهنا إتباعا للبخاري رحمه الله.

وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، ثنا نافع بن جبير عن ابن عباس: قال: قدم

مسيلمة الكذاب ( ٢) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القول: إن جعل لي محمد

وقدم في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه الامر من بعده اتبعته، وسلم ومعه ثابت بن قيس بن

شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه.

فقال له: " لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليقرنك الله، وإني لاراك الذي

رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني " ثم انصرف عنه.

قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك الذي رأيت فيه ما أريت، فأخبرني أبو هريرة:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأﻧﻬما، فأوحى إلي

في المنام إن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي: أحدهما الاسود العنسي ( ١) والآخر مسيلمة

.(٢) "

ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر ( ٣) ثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر، عن همام بن منبه ( ٤) أنه سمع أبا هريرة

يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا نائم أتيت بخزائن الارض، فوضع في كفي سواران من ذهب

فكبرا علي فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب

.( اليمامة " ( ٥

( ثم قال البخاري: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، ثنا يعقوب بن ابراهيم، حدثنا أبي، عن صالح عن ابن عبيدة بن ( ٦

نشيط - وكان في موضع آخر اسمع عبد الله - أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة.

قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث وكان تحته بنت الحارث بن كريز وهي أم عبد

الله بن الحارث ( ٧) بن كريز فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وهو الذي يقال له

خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فوقف عليه فكلمه فقال له

مسيلمة إن شئت خليت بينك وبين الامر، ثم جعلته لنا بعدك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه وإني لاراك الذي رأيت فيه ما رأيت

٨)، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك )

عني " فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ عبيد الله بن ] ( ١) عبد الله سألت ابن عباس عن رؤيا

رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا

أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما ( ٢) وكرهتهما فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما

.( كذابين يخرجان " فقال عبيد الله: [ أحمدهما العنسي الذي قتله ] ( ٣) فيروز باليمن والآخر مسيلمة الكذاب ( ٤

وقال محمد بن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن

حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزوال بن حنيفة ويكنى أبا ثمامة وقيل أبا هارون وكان قد

تسمى بالرحمان فكان يقال له رحمان اليمامة وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف أبوابا من

النيرجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان

يقص جناح الطير ثم يصله ويدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.

قلت: وسنذكر أشياء من خبره عند ذكر مقتله لعنه الله.

قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الانصار ثم من بني النجار، فحدثني بعض علمائنا من

أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم

جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه "

قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا.

وزعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا

مكانه، فقالوا يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركائبنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى

الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال " أما أنه ؟ يس بشركم مكانا " أي لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي

يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاؤوا مسيلمة بما

أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم.

وقال: إني أشركت في الامر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس بشركم

مكانا، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الامر معه، ثم جعل يسجع لهم السجعات، ويقول لهم فيما يقول

مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا

وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع هذا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي.

فأصفقت ( ٥) معه بنو حنيفة على ذلك.

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان ( .(١

وذكر السهيلي وغيره أن الرحال بن عنفوة - وأسمه ﻧﻬار بن عنفوة - وكان قد أسلم وتعلم شيئا من القرآن

وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، وقد مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبي

هريرة وفرات بن حيان فقال لهم: " أحدكم ضرسه في النار مثل أحد " فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع

مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الامر معه، وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه من

القرآن فادعاه مسيلمة لنفسه فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة وقد قتله زيد بن الخطاب يوم اليمامة كما

سيأتي.

قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له حجير، وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأضيف إليهم

سجاح وكانت تكنى أم صادر تزوجها مسيلمة وله معها أخبار فاحشة، واسم مؤذﻧﻬا زهير بن عمرو وقيل جنبة بن

طارق، ويقال إن شبث بن ربعي أذن لها أيضا ثم أسلم وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها،

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من

مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الامر معك، فإن لنا نصف الامر،

.( ولقريش نصف الامر، ولكن قريشا قوم يعتدون ( ٢

فقدم عليه رسولان ﺑﻬذا الكتاب

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب،

سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الارض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

قال وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعني ورود هذا الكتاب - قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فحدثني سعد

بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا

مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: " وأنتما تقولان مثل ما يقول ؟ " قالا: نعم ! فقال: أما والله لولا أن الرسل لا

.( تقتل لضربت أعناقكما ( ٣

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود.

قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال لهما: " أتشهدان أني رسول الله " فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "

آمنت بالله ورسله، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما " قال عبد الله بن مسعود

فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.

قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.

قال الحافظ البيهقي أما أسامة ( ٤) بن أثال فأنه أسلم وقد مضى الحديث في اسلامه.

( وأما ابن النواحة [ فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه ]

فأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ( ١) أنبانا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا

جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني

مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرأون قراءة ما أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم: والطاحنات طحنا،

والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.

قال: فأرسل إليهم عبد الله فأتى ﺑﻬم وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة، قال: فأمر به عبد الله فقتل، ثم

.( قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء ولكن نحوزهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم (

وقال الواقدي كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة وفيهم الرحال بن عنفوة وطلق بن

علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت على الضيافة

فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومره خبزا وسمنا، ومره تمرا ينزلهم.

فلما قدموا المسجد أسلموا وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، لما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من

فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم، لما ذكروا أنه في رحالهم فقال " أما أنه ليس بشركم مكانا " فلما رجعوا إليه

أخبروه بما قال عنه فقال: إنما قال ذلك لانه عرف الامر

لي من بعده، وﺑﻬذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.

قال الواقدي: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معهم بأداوة فيها فضل طهوره، وأمرهم أن يهدموا

.( بيعتهم وينضحوا هذا الماء مكانه ويتخذوه مسجدا ففعلوا ( ٣

وسيأتي ذكر مقتل الاسود العنسي في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتل مسيلمة الكذاب في أيام

الصديق، وما كان من أمر بني حنيفة إن شاء الله تعالى.

________________________________________

قلت: وسيأتي عما قريب إن شاء الله ذكر ما وقع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الردة في أحياء كثيرة

من العرب، وما كان من أمر مسيلمة بن حبيب المتنبئ باليمامة، والاسود العنسي باليمن،

وما كان من أمر الناس حتى فاؤوا ورجعوا إلى الله تائبين نازعين عما كانوا عليه في حال ردﺗﻬم من السفاهة والجهل

حتى نصرهم الله وثبتهم وردهم إلى دينه العظيم الذي استفزهم الشيطان به،

الحق على يدي الخليفة الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، كما سيأتي مبسوطا مبينا مشروحا إن شاء الله.

_______________________________

وسنذكر في قتال أهل الردة أن

طلحة الاسدي قتل عكاشة بن محصن شهيدا رضي الله عنه، ثم رجع طلحة الاسدي عما كان يدعيه من النبوة وتاب

إلى الله، وقدم على أبي بكر الصديق واعتمر وحسن إسلامه * وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم رأيت كأنه وضع في يدي سواران فقطعتهما، فأوحى إلي في المنام: أن

انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة * وقد تقدم في الوفود أنه

قال لمسيلمة حين قدم مع قومه وجعل يقول: إن جعل لي محمد الامر من بعده اتبعته، فوقف عليه رسول الله صلى

الله عليه وسلم وقال له: والله لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لاراك الذي

أريت فيه ما أريت * وهكذا وقع، عقره الله وأهانه وكسره وغلبه يوم اليمامة، كما قتل الاسود العنسي بصنعاء،

على ما سنورده إن شاء الله تعالى * وروى البيهقي من حديث مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس قال: لقي

رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيلمة فقال له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

آمنت بالله وبرسله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا رجل أخر لهلكة قومه ( ٢) * وقد ثبت في

الحديث الآخر أن مسيلمة كتب بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من مسيلمة

رسول الله، إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت في الامر بعدك، فلك المدر ولي الوبر، ولكن

قريشا قوم يعتدون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى

مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

وقد جعل الله العاقبة لمحمد وأصحابه، لاﻧﻬم هم المتقون وهم العادلون

المؤمنون، لا من عداهم * وقد وردت الاحاديث المروية من طرق عنه صلى الله عليه وسلم في الاخبار عن الردة

التي وقعت في زمن الصديق فقاتلهم الصديق بالجنود المحمدية حتى رجعوا إلى دين الله أفواجا، وعذب

ماء الايمان كما كان بعد ما صار أجاجا،

__________________________________________


فصل وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، وعند مسلم عن جابر بن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

قال: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا، كلهم يزعم أنه نبي ( ٤) * وقال البيهقي عن الماليني عن أبي [ أحمد بن

٥) عدي عن أبي يعلى الموصلي: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الاسدي، ثنا شريك، عن أبي ) [

إسحاق عن عبد الله بن الزبير قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، منهم

مسيلمة، والعنسي، والمختار.

وشر قبائل العرب بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف، قال ابن عدي: محمد بن الحسن له إفرادات، وقد حدث عنه

الثقاة، ولم أر بتحديثه بأسا

_____________________________________________________

وقال شيخنا أبو المعالي: وأما إلقاؤه - يعني إبراهيم عليه السلام - من المنجنيق، فقد وقع في حديث

البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذاب، وأن أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا الباب،

فقال البراء بن مالك: ضعوني على برش وأحملوني على رؤوس الرماح ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب، ففعلوا

ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين، وقتل مسيلمة * قلت: وقد ذكر ذلك مستقصى في أيام الصديق

حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب [ من ] مائة ألف أو يزيدون، وكان

المسلمون بضعة عشر ألفا، فلما التقوا جعل كثير من الاعراب يفرون، فقال المهاجرون والانصار: خلصنا يا خالد،

فميزهم عنهم، وكان المهاجرون والانصار قريبا من ألفين وخمسمائة، فصمموا الحملة يتدابرون ويقولون: يا

أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم، فهزموهم بأذن الله ولجأوهم إلى حديقة هناك، وتسمى حديقة الموت،

فتحصنوا ﺑﻬا، فحصروهم فيها، ففعل البراء بن مالك، أخو أنس بن مالك - وكان الاكبر - ما ذكر من رفعه على

الاسنة فوق الرماح حتى تمكن من أعلى

سورها، ثم ألقى نفسه عليهم وﻧﻬض سريعا إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الحديقة

ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند جدار كأنه جمل أزرق - أي من سمرته

- فابتدره وحشي بن حرب الاسود، قاتل حمزة، بحربته، وأبو دجانة سماك بن حرشة الانصاري - وهو الذي ينسب

إليه شيخنا هذا أبو المعالي بن الزملكاني - فسبقه وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه، وجاء إليه أبو

دجانة فعلاه بسيفه فقتله، لكن صرخت جارية من فوق القصر: واأميراه، قتله العبد الاسود، ويقال: إن عمر

مسيلمة يوم قتل مائة وأربعين سنة، لعنه الله، فمن طال عمره وساء عمله قبحه الله * وهذا ما ذكره شيخنا فيما

يتعلق بإبراهيم الخليل عليه السلام.

___________________________

فصل في تصدي الصديق

لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة قد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت احياء كثيرة من

الاعراب، ونجم النفاق بالمدينة وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة

الاسدي بنو أسد وطئ، وبشر كثير أيضا، وادعى النبوة أيضا كما أدعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب

واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة، فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الاعراب في المدينة وراموا

أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي بن أبي

طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود،

وجعلت وفود العرب تقدم المدينة.

يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله

[ تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ﺑﻬا وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * [ التوبة: ١٠٣

قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم: أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * فواعجبا ما

بال ملك أبي بكر وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى

يتمكن الايمان في قلوﺑﻬم: فامتنع الصديق من ذلك وأباه ثم هم بعد ذلك يزكون، * وقد روى الجماعة في كتبهم

سوى ابن ماجة عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لابي بكر: علام تقاتل الناس ؟ وقد قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني

دماءهم وأموالهم إلا بحقها ؟ فقال أبو بكر: والله لو منعوني

عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال،

والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال،

فعرفت أنه الحق ( ١) * قلت: وقد قال الله تعالى * (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) *

التوبة: ٥ ] وثبت في الصحيحين: بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام

الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان * وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة بن

سوار: ثنا عيسى بن يزيد المديني، حدثني صالح بن كيسان، قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله

وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله، والعلم

شريد والاسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم

خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرا لشر عندهم، قد غيروا كتاﺑﻬم، وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون

يحسبون أﻧﻬم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشا، وأضلهم دنيا، في ظلف من الارض مع ما فيه

من السحاب فختمهم الله بمحمد، وجعلهم الامة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض

الله نبيه صلى الله عليه وآله فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم * (وما

محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر

الله شيئا ويسجزى الله الشاكرين)

* [ آل عمران: ١٤٤ ] إن من حولكم من العرب منعوا شاﺗﻬم وبعيرهم، ولم

يكونوا في دينهم - وإن رجعوا إليه - أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على

ما قد تقدم من بركة نبيكم صلى الله عليه وآله، وقد وكلكم إلى المولى الكافي، الذي وجده ضالا فهداه، وعائلا

فأغناه * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * الآية [ آل عمران: ١٠٣ ]، والله لا أدع أن أقاتل على

امر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدا من أهل الجنة، وبقى من بقي منها خليفته

وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له

* (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض) * الاية (النور: ٥٥ ]، ثم نزل * وقال

الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه

فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * قالوا الآية، : المراد بذلك أبو بكر وأصحابه، في قتالهم المرتدين، وما نعي

الزكاة * وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.

ما خلا أهل المسجدين، مكة، والمدينة، وارتدت أسد وغطفان وعليهم طليحة بن خويلد الاسدي الكاهن، وارتدت

كندة ومن يليها، وعليهم الاشعث بن قيس الكندي، وارتدت مذحج ومن يليها، وعليهم الاسود بن كعب العنسي

الكاهن، وارتدت ربيعة مع المعرور بن النعمان بن المنذر، وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب

الكذاب * وارتدت سليم مع الفجأة، واسمه أنس بن عبد يا ليل، وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة * وقال

القاسم بن محمد: اجتمعت أسد وغطفان وطئ على طليحة الاسدي، وبعثوا وفودا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه

الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا ﺑﻬم إلى أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لابي بكر

على الحق وقال: لو منعوني عقالا لجاهدﺗﻬم ( ١)، فردهم فرجعوا إلى عشائرهم، فأخبروهم بقلة أهل المدينة،

وطمعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد وقال: إن الارض

كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون ليلا يأتون أم ﻧﻬارا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم

يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم وقد أبينا عليهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة،

وخلفوا نصفهم بذي حسى ( ٢) ليكونوا ردءا لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم: أن

ألزموا مكانكم.

وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدو واتبعهم المسلمون على إبلهم، حتى بلغوا ذا

حسى فخرج عليهم الردء فالتقوا مع

الجمع فكان الفتح وقد قال: أطعنا رسول الله ما كان وسطنا ( ٣) * فيالعباد الله ما لابي بكر أيورثنا بكرا إذا مات

بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر فهلا رددتم وفدنا بزمانه ؟ * وهلا خشيتم حس راعية البكر ؟ وإن التي

سألوكمو فمنعتمو * لكالتمر أو أحلى إلي من التمر وفي جمادى الآخرة ركب الصديق في أهل المدينة وأمراء

الانقاب، إلى من حول المدينة من الاعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرة،

وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدهم طليحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة

وهي أﻧﻬم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها ثم أرسلوها من رؤوس الجبال، فلما رأﺗﻬا إبل أصحاب

الصديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئا إلى الليل، وحتى رجعت إلى المدينة،

الخطيل بن أوس: فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي * عشية يحدى بالرماح أبو بكر ولكن يدهدى بالرجال فهبنه * إلى

قدر ما أن تقيم ولا تسرى ولله أجناد تذاق مذاقه * لتحسب فيما عد من عجب الدهر أطعنا رسول الله ما كان بيننا

* فيالعباد الله ما لابي بكر فلما وقع ما وقع ظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أخر،

فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائما ليله يعبئ الناس، ثم خرج على تعبئة من آخر الليل، وعلى ميمنته

النعمان بن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة أخوهما

سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا، حتى وضعوا

فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الادبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر

حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، وذل ﺑﻬا المشركون، وعز ﺑﻬا المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من

فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين

وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي: غداة سعى أبو بكر إليهم * كما يسعى لموتته حلال أراح على

نواهقها عليا * ومج لهن مهجته حبال وقال أيضا: أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا * ككبكبة الغزي أناخوا على

الوفر فما صبروا للحرب عند قيامها * صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر طرقنا بني عبس بأدنى نباجها * وذبيان ﻧﻬنهنا

بقاصمة الظهر فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الاسلام وأهله، وذلك أنه عز المسلمون في كل قبيلة،

وذل الكفار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة، مؤيدا منصورا، سالما غانما، وطرقت المدينة في الليل صدقات

عدي بن حاتم ( ١)، وصفوان والزبرقان، إحداها في أول الليل، والثانية في أوسطه والثالثة في آخره، وقدم بكل

واحدة منهن بشير من أمراء الانقاب، فكان الذي بشر بصفوان سعد بن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد

الرحمن بن عوف، والذي بشر بعدي بن حاتم عبد الله بن مسعود، ويقال: أبو قتادة الانصاري رضي الله عنه *

وذلك على رأس

ستين ليلة من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم

__________________________


وللمهاجر بن أبي أمية، وأمره بجنود العنسي ومعونة الابناء على قيس بن مكشوح ( ١) * قلت: وذلك لانه كان قد

نزع يده من الطاعة، على ما سيأتي.

قال: ولخالد بن سعيد بن العاص ( ٢) إلى مشارف الشام.

ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث.

ولحذيفة بن محصن الغطفاني وأمره بأهل دبا وبعرفجة وهرثمة ( ٣) وغير ذلك.

لطرفة بن حاجب ( ٤) وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن.

ولسويد بن مقرن، وأمره بتهامة اليمن.

وللعلاء بن الحضرمي، وأمره بالبحرين رضي الله عنهم * وقد كتب لكل أمير كتاب عهده على حدته، ففصل كل

أمير بجنده من ذي القصة، ورجع الصديق إلى المدينة، وقد كتب معهم الصديق كتابا إلى الربذة ( ٥) وهذه نسخته.

" بسم الله الرحمن الرحيم.

من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا، من

عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من أتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والهوى

٦)، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده )

ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبى ذلك ونجاهده.

أما بعد فإن الله أرسل [ محمدا ] بالحق من عنده، إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا، لينذر

من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم [

بإذنه ] من أدبر عنه، حتى صار إلى الاسلام طوعا أو كرها، ثم توفى الله رسوله، وقد نفذ لامر الله، ونصح لامته،

وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك، ولاهل الاسلام

في الكتاب الذي أنزل فقال * (إنك ميت وإﻧﻬم ميتون) * [ الزمر: ٣٠ ] وقال: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد

أفأن مت فهم الخالدون) * [ الانبياء: ٣٤ ] وقال للمؤمنين * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن

مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) * [ آل

عمران: ١٤٤ ] فمن كان إنما يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله [ وحده ] فإن الله حي لا

يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لامره، منتقم من عدوه.

وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن ﺗﻬتدوا ﺑﻬداه، وأن

تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعنه الله

مخذول، ومن هداه غير الله كان ضالا ( ١)، قال الله تعالى * (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا

مرشدا) * [ الكهف: ١٧ ] ولن يقبل له في الدنيا عمل حتى يقربه، ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل، وقد

بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالاسلام، وعمل به، اغترارا بالله وجهلا بأمره، وإجابة للشيطان،

قال الله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه

وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) * [ الكهف: ٥٠ ] قال: * (إن الشيطان لكم عدو

فاتخذوه عدوا إنما يدعوه حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) * [ فاطر: ٦ ] وإني بعثت إليكم في جيش من

المهاجرين والانصار، والتابعين بأحسان، وأمرته أن لا يقبل من أحد إلا الايمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز

وجل، فإن أجاب وأقر وعمل صالحا قبل منه، وأعانه عليه وإن أبى حاربه عليه حتى يفئ إلى أمر الله، ثم لا يبقي على

أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد غير

الاسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابه في كل مجمع لكم،

والداعية الاذان فإذا أذن المسلمون فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا

حمل منهم على ما ينبغي لهم ( ٢) * رواه سيف بن عمر عن عبد الله بن سعيد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.

فصل في مسيرة الامراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه وكان سيد الامراء ورأس الشجعان الصناديد أبو

سليمان خالد بن الوليد * روى الامام أحمد من طريق وحشي بن حرب، أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد

عل قتال أهل الردة،
_____________________________________

وقال عطارد بن حاجب في ذلك: أمست نبيتنا أنثى نطيف ﺑﻬا * وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا ثم إن سجاح قصدت

بجنودها اليمامة، لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب، فهابه قومها، وقالوا: إنه قد استفحل أمره وعظم، فقالت

لهم فيما تقوله: عليكم باليمامة * دفوا دفيف الحمامة * فأﻧﻬا غزوة صرامة * لا تلحقكم بعدها ملامة * قال: فعمدوا

لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده

عكرمة بن أبي جهل بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد كما سيأتي، فبعث إليها يستأمنها

ويضمن لها أن يعطيها نصف الارض الذي كان لقريش لو عدلت، فقد رده

وجاء إليها فاجتمعا الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع ﺑﻬا في طائفة من قومه، فركب إليها في أربعين من قومه،

في خيمة، فلما خلا ﺑﻬا وعرض عليها ما عرض من نصف الارض، وقبلت ذلك، قال مسيلمة: سمع الله لمن سمع،

وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع، رأكم ربكم فحياكم، ومن وحشته أخلاكم، ويوم

دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار لربكم

الكبار، رب الغيوم والامطار * وقال أيضا: لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت وأيديهم طفلت، قلت

لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون ( ١)، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف

تحيون، وإلى ملك السماء كيف ترقون، فلو أﻧﻬا حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولاكثر الناس

فيها الثبور * وقد كان مسيلمة لعنه الله شرع لمن اتبعه أن الاعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء

حينئذ، إلا أن يموت ذلك الولد الذكر، فتحل له النساء حتى يولد له ذكر، هذا مما أقترحه لعنه الله، من تلقاء نفسه

* ويقال: إنه لما خلا

بسجاح سألها ماذا يوحي إليها ؟ فقالت: وهل يكون النساء يبتدئن ؟ بل أنت ماذا أوحى إليك ؟ فقال: ألم تر إلى

ربك كيف فعل بالحبلى ؟ أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا.

قالت: وماذا ؟ فقال: إن الله خلق للنساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قعسا إيلاجا، ثم نخرجها

إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا.

فقالت: أشهد أنك نبي، فقال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت: نعم، فقال: ألا قومي

إلى النيك * فقد هيئ لك المضجع * فإن شئت ففي البيت * وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناك * وإن شئت

على أربع * وإن شئت بثلثيه * وإن شئت به أجمع فقالت: بل به أجمع، فقال: بذلك أوحي إلي، وأقامت عنده ثلاثة

أيام، ثم رجعت إلى قومها فقالوا: ما أصدقك ؟ فقالت: لم يصدقني شيئا، فقالوا: إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير

صداق فبعثت إليه تسأله صداقا، فقال: ارسلي إلى مؤذنك، فبعثته إليه - وهو شبت بن ربعي - فقال: ناد في

قومك: إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد - يعني صلاة الفجر وصلاة

العشاء الآخرة - فكان هذا صداقها عليه لعنهما الله * ثم انثنت سجاح راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو

خالد من أرض اليمامة فكرت راجعة إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه.

فأقامت في قومها بني تغلب، إلى زمان معاوية فأجلاهم منها عام الجماعة كما سيأتي بيانه في موضعه.

_____________________________________

اتصلت فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي كان قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة،

بمسيلمة لعنهما الله، ثم ترحلت إلى بلادها - فلما كان ذلك - ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوم في

شأنه، وهو نازل بمكان يقال له: البطاح، فقصدها خالد بجنوده وتأخرت عنه الانصار، وقالوا: إنا قد

قضينا ما أمرنا به الصديق، فقال لهم خالد: إن هذا أمر لا بد من فعله، وفرصة لا بد من انتهازها، وإنه لم يأتني فيها

كتاب، وأنا الامير وإلي ترد الاخبار، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح.

فسار يومين ثم لحقه رسول الانصار يطلبون منه الانتظار، فلحقوا به، فلما وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة،

فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان

مالك بن نويرة فأنه متحير في أمره، متنح عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية

فيهم، فشهد أبو قتادة - الحرث بن ربعي الانصاري - أﻧﻬم أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إﻧﻬم لم يؤذنوا ولا صلوا،

فيقال إن الاسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم ( ١)، فظن القوم أنه

أراد القتل، فقتلوهم، وقتل ضرار بن الازور ( ٢) مالك بن نويرة، فلما سمع الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال:

إذا أراد الله أمرا أصابه * واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة، وهي أم تميم ابنة المنهال، وكانت جميلة، فلما حلت

بني ﺑﻬا، ويقال: بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة،

وقال: ألم تعلم أﻧﻬا قرينة الصلاة ؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك ؟

يا ضرار اضرب عنقه، فضربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا، فأكل منها خالد تلك

الليلة ليرهب بذلك الاعراب، من المرتدة وغيرهم، ويقال: إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم

القدر ولم تفرغ الشعر لكثرته، وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه

إلى الصديق، وتكلم عمر مع أبي قتادة في خالد: وقال للصديق: اعزله فإن في سيفه رهقا، فقال أبو بكر لا أشيم

سيفا سله الله على الكفار، وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى الصديق خالدا، وعمر يساعده وينشد الصديق ما

قال في أخيه من المراثي، فوداه الصديق من عنده، ومن قول متمم في ذلك: وكنا كندمانى جذيمة برهة ( ٣) * من

الدهر حتى قيل لن يتصدعا
__________________________

فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وقال أيضا: لقد لامني عند العبور على البكى * رفيقي

لتذراف الدموع السوافك وقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك فقلت له إن الاسى يبعث

الاسى * فدعني فهذا كله قبر مالك والمقصود أنه لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرض الصديق ويذمره على

عزل خالد عن الامرة ويقول: وقد إن في سيفه لرهقا، حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة،

لبس درعه التي من حديد، وقد صدئ من كثرة الدماء، وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء، فلما دخل

المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الاسهم من عمامة خالد فحطمها، وقال: أرياء قتلت امرأ مسلما ثم نزوت

.( على امرأته، والله لارجمنك بالجنادل ( ١

وخالد لا يكلمه، ولا يظن إلا أن رأى الصديق فيه كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز

عنه ما كان منه في ذلك وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد، فقال خالد: هلم إلي يا

ابن أم شملة ( ٢)، فلم يرد عليه وعرف أن الصديق قد رضي عنه، واستمر أبو بكر بخالد على الامرة، وإن كان قد

اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى أبي جذيمة فقتل

أولئك الاسارى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

حتى رد إليهم مليغة الكلب، ورفع يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ومع هذا لم يعزل خالد على

الامرة.

مقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله

لما رضي الصديق عن خالد بن الوليد وعذره بما اعتذر به، بعثه ( ٣) إلى قتال بني حنيفة باليمامة: وأوعب معه

المسلمون، وعلى الانصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكل ﺑﻬم، وقد اجتاز بخيول

لاصحاب سجاح فشردهم وأمر باخراجهم من جزيرة العرب، وأردف الصديق خالدا بسرية لتكن ردءا له من

ورائه وقد كان بعث قبله إلى مسيلمة عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، فلم يقاوما بني حنيفة، لاﻧﻬم في نحو

أربعين ألفا من المقاتلة، فجعل عكرمة قبل مجئ صاحبه شرحبيل، فناجزهم فنكب، فانتظر خالدا، فلما سمع

مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: عقربا في طرف اليمامة والريف وراء ظهورهم، وندب الناس وحثهم،

فحشد له أهل اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشه المحكم بن الطفيل، والرجال بن عنفوه بن ﻧﻬشل، وكان الرجال

هذا صديقه الذي شهد له أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه قد أشرك معه مسيلمة بن حبيب في

الامر، وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة، حتى أتبعوا مسيلمة، لعنهما الله، وقد كان الرجال هذا قد

وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ البقرة، وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله

ويثبتهم على الاسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة * قال سيف بن عمر عن طلحة عن عكرمة عن أبي

هريرة: كنت يوما عند النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجال بن عنفوة، فقال: إن فيكم لرجلا ضرسه في

النار أعظم من واحد، فهلك القوم وبقيت أنا والرجال وكنت متخوفا لها، حتى خرج الرجال مع مسيلمة وشهد له

بالنبوة، فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة * رواه ابن إسحاق عن شيخ عن أبي هريرة * وقرب خالد وقد

جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى اﻟﻤﺠنبتين زيدا وأبا

حذيفة، وقد مرت المقدمة في الليل بنحو من أربعين، وقيل ستين فارسا ( ١)، عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب

لاخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم فلما جئ ﺑﻬم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه

فلم يصدقهم، وأمر بضرب أعناقهم كلهم، سوى مجاعة فإنه استبقاه مقيدا عنده - لعلمه بالحرب والمكيدة - وكان

سيدا في بني حنيفة، شريفا مطاعا، ويقال: إن خالدا لما عرضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة ؟ قالوا:

نقول منا نبي ومنكم نبي، فقتلهم إلا واحدا اسمه سارية، فقال له: أيها الرجل إن كنت تريد عدا بعدول هذا خيرا أو

شرا فاستبق هذا الرجل - يعني مجاعة بن مرارة - فاستبقاه خالد مقيدا، وجعله في الخيمة مع امرأته، وقال:

استوصى به خيرا، فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستنكح النساء

سبيات، وينكحن غير حظيات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم المسلمون حتى نزل ﺑﻬم خالد على

كثيب يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الانصار مع ثابت

بن قيس ين شماس، والعرب على راياﺗﻬا، ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون

والكفار فكانت جولة واﻧﻬزمت الاعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم، حتى

أجارها مجاعة وقال: نعمت الحرة هذه، وقد قتل الرجال بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة، قتله زيد بن الخطاب، ثم

تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عودتم أقرانكم، ونادوا من كل جانب: اخلصنا يا

خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والانصار وحمى البراء بن معرور - وكان إذا رأى الحرب أخذته العرواء فيجلس

على ظهر الرجال حتى يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الاسد، وقاتلت بنو حنيفة قتالا لم يعهد مثله،

وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: وحفر ثابت بن قيس يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم،

لقدميه في الارض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الانصار بعدما تحنط وتكفن،

فلم يزل ثابتا حتى قتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك ؟ فقال: بئس حامل

القرآن أنا إذا، وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدما، وقال:

والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدا رضي الله عنه * وقال أبو حذيفة: يا أهل

القرآن زينوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب رضي الله عنه، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم،

وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز، وقال: أنا ابن

الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين - وكان شعارهم يومئذ يا محمداه - وجعل لا يبرز لهم

أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شئ إلا أكله، ودارت رحى المسلمين ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه النصف

والرجوع إلى الحق، فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقه، لا يقبل منه شيئا، وكلما أراد مسيلمة يقارب من الامر

صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميز خالد المهاجرين من الانصار من الاعراب، وكل بني أب على

رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبرا لم يعهد مثله، ولم

يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفار الادبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون

السيوف في رقاﺑﻬم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم اليمامة - وهو محكم بن

الطفيل لعنه الله - بدخولها، فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن

الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله ( ١)، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم، وأحاط ﺑﻬم الصحابة، وقال

البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه

عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون باﺑﻬا حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطاﻧﻬا وأبواﺑﻬا يقتلون

من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل

أورق، وهو يريد يتساند، لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه

وحشي بن حرب مولى جبير بن

مطعم - قاتل حمزة - فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة،

فضربه بالسيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: وا أمير الوضاءة، قتله العبد الاسود، فكان جملة من قتلوا في

الحديقة وفي المعركة قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفا ( ٢)، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل:

خمسمائة ( ٣)، فالله أعلم، وفيهم من

فجعل يريه سادات الصحابة، وأعيان الناس من يذكر بعد، وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده،

القتلى ليعرفه بمسيلمة، فلما مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد: أهذا هو ؟ قال: لا، والله هذا خير منه، هذا

الرجال بن عنفوة، قال سيف بن عمر: ثم مروا برجل أصفر أخنس ( ١)، فقال

هذا صاحبكم، فقال خالد: قبحكم الله على اتباعكم هذا، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول

حصوﻧﻬا من مال وسبي، ثم عزم على غزو الحصون ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار، فجدعه

مجاعة فقال: إﻧﻬا ملاى رجالا ومقاتلة فهلم فصالحني عنها، فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كلوا من

كثرة الحروب والقتال، فقال: دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصلح، فقال: اذهب، فسار إليهم مجاعة فأمر

النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم

كما قال مجاعة فانتظر الصلح، ودعاهم خالد إلى الاسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلى الحق ورد عليهم خالد

بعض ما كان أخذ من السبي ( ٢)، وساق الباقين إلى الصديق، وقد تسرى علي بن أبي طالب بجارية منهم، وهي أم

ابنه محمد الذي يقال له: محمد بن الحنفية رضي الله عنه، وقد قال ضرار بن الازور في غزوة اليمامة هذه: فلو سئلت

عنا جنوب لاخبرت * عشية سالت عقرباء وملهم وسال بفرع الواد حتى ترقرقت * حجارته فيه من القوم بالدم

عشية لا تغني الرماح مكاﻧﻬا * ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وفي فتوح ابن الاعثم: " على ثلث الكراع وربع السبي " وقد أرسل خالد كتابا إلى أبي بكر بشأن الصلح وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لعبد الله بن عثمان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله من خالد بن الوليد، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى لم يرد

بأهل اليمامة إلا ما صاروا إليه، وقد صالحت القوم على شئ من الصفراء والبيضاء وعلى ثلث الكراع وربع السبي

ولعل الله تبارك وتعالى أن يجعل عاقبة صلحهم خيرا والسلام.

ورد أبو بكر جواب الكتاب: أما بعد فقد قرأت كتابك، وأما ما ذكرت فيه من صلح القوم.

فأتمم للقوم ما صالحتهم عليه ولا تغدر ﺑﻬم واجمع الغنائم والسبي وما أفاء الله به عليك من مال بني حنيفة فأخرج من

ذلك الخمس ووجه به إلينا ليقسم فيمن حضرنا من المسلمين وأدفع إلى كل ذي حق حقه والسلام (الفتوح ١

.(٤١

فأن تبتغي الكفار غير مسليمة * جنوب فأني تابع الدين مسلم أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة * ولله بالمرء اﻟﻤﺠاهد أعلم

ومح وقد قال خليفة بن خياط، مد بن جرير، وخلق من السلف: كانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشرة، وقال ابن

قانع: في آخرها، وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة ثنتي عشرة، والجمع بينها أن أبتداءها في سنة إحدى

عشرة، والفراغ منها في سنة ثنتي عشرة والله

أعلم * ولما قدمت وفود بني حنيفة على الصديق قال لهم: أسمعونا من قرآن مسيلمة، فقالوا: أو تعفينا يا خليفة

رسول الله ؟ فقال: لا بد من ذلك، فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت الضفدعين نقي لكم نقين، لا الماء تكدرين

ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين ( ١)، وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا،

والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم

على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه ( ٢)، وذكروا أشياء من

هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون، فيقال: إن الصديق قال لهم: ويحكم، أين كان يذهب

بقولكم ؟ إن هذا الكلام لم يخرج من أل، وكان يقول: والفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، وكان يقول:

والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس، وتقدم قوله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج

منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي، وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك البارد السميج * وقد أورد أبو

بكر بن الباقلاني رحمه الله في كتابه إعجاز القرآن أشياء من كلام هؤلاء الجهلة المتنبئين كمسيلمة وطليحة والاسود

وسجاح وغيرهم، مما يدل على ضعف عقولهم وعقول من اتبعهم على ضلالهم ومحالهم * وقد روينا عن عمرو بن

العاص أنه وفد إلى مسيلمة في أيام جاهليته، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين ؟ فقال له

عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي ؟ قال: أنزل عليه * (والعصر إن الانسان لفي خسر إلا

الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * قال: ففكر مسيلمة ساعة ثم رفع رأسه فقال:

ولقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هي ؟ فقال مسيلمة: يا وبر يا وبر، إنما أنت ايراد وصدر، وسائرك حفر

نقر.

ثم قال: كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب * وذكر علماء التاريخ أنه كان

يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر

فغاض ماؤه بالكلية: وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا، وتوضأ وسقى بوضوئه نخلا فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرك

عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع

رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمى * وقال

عن عمير بن طلحة عن أ سيف بن عمر عن خليد بن زفر النمري، بيه أنه جاء إلى اليمامة فقال: أين مسيلمة ؟

فقال: مه رسول الله، فقال: لا حتى أراه، فلما جاء قال: أنت مسيلمة ؟ فقال: نعم.

قال: من يأتيك ؟ قال: رجس ( ١)، قال: أفي نور أم في ظلمة ؟ فقال: في ظلمة، فقال أشهد أنك كذاب وأن محمدا

صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ( ٢)، واتبعه هذا الاعرابي الجلف لعنه الله حتى قتل معه يوم

عقربا، لا رحمه الله.
____________________________

فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب،

سار ثابت فيمن

سار: فلما لقوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا

نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا لانفسهما حفرة فدخلا فيها فقاتلا حتى قتلا، قالت: ورأى رجل

من المسلمين ثابت بن قيس في منامه فقال: إني لما قتلت بالامس مر بي رجل من المسلمين فانترع مني درعا نفيسة

ومنزله في أقصى العسكر وعند منزله فرس بتن ( ١) في طوله، وقد أكفأ على الدرع برمة، وجعل فوق البرمة رحلا،

وائت خالد بن الوليد فليبعث إلي درعي فليأخذها، فإذا قدمت على خليفة وسول الله فأعلمه أن علي من الدين

كذا ولي من المال كذا وفلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، قال: فأتى خالدا فوجه إلى الدرع

فوجدها كما ذكر، وقدم على أبي بكر فأخبره فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته فلا نعلم أحدا جازت

-----------------------------------

ومنهم زيد بن الخطاب ابن نفيل القرشي العدوي أبو محمد، وهو أخو عمر بن الخطاب لابيه، وكان زيدا أكبر من

عمر، أسلم قديما، وشهد بدرا، وما بعدها وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي

الانصاري وقد قتلا جميعا باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده، فلم يزل يتقدم ﺑﻬا حتى قتل فسقطت،

فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قتل زيد يومئذ الرجال بن عنفوة، واسمه ﻧﻬار، وكان الرجال هذا قد أسلم وقرأ

البقرة ثم ارتد ورجع فصدق مسيلمة وشهد له بالرسالة، فحصل به فتنة عظيمة، فكانت وفاته على يد زيد رضي

الله عن زيد ثم قتل زيدا رجل يقال له أبو مريم الحنفي، وقد أسلم بعد ذلك وقال لعمر: يا أمير المؤمنين إن الله أكرم

زيدا بيدي ولم يهني

-----------------------------------------------

ومنهم مسيلمة بن حبيب اليمامي الكذاب قدم المدينة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه بني حنيفة،

وقد وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه وهو يقول: إن جعل لي محمد الامر من بعده اتبعته، فقال له:

لو سألتني هذا العود - لعرجون في يده - ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لاراك الذي أريت فيه ما

أريت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام كأن في يده سوارين من ذهب فأهمه شأﻧﻬما، فأوحى

الله إليه في المنام انفخهما، فنفخهما فطارا، فأولهما بكذابين يخرجان، وهما صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة.

وهكذا وقع، فإﻧﻬما ذهبا وذهب أمرهما.

أما الاسود فذبح في داره، وأما مسيلمة فعقره الله على يدي وحشي بن حرب رماه بالحربة فأنفذه كما تعقر الابل،

وضربه أبو دجانة على رأسه ففلقه وذلك بعقر داره في الحديقة التي يقال لها حديقة الموت.

وقد وقف عليه خالد بن الوليد وهو

طريح - أراه إياه من بين القتلى مجاعة بن مرارة -، ويقال: كان أصفر أخينس وقيل كان ضخما أسمر اللون كأنه

جمل أورق، ويقال إنه مات وعمره مائة وأربعون سنة فالله أعلم.

وقد قتل قبله وزيراه ومستشاراه لعنهما الله، وهما محكم بن الطفيل الذي يقال له محكم اليمامة، قتله عبد الرحمن بن

أبي بكر، رماه بسهم وهو يخاطب قومه يأمرهم بمصالح حرﺑﻬم فقتله، والآخر ﻧﻬار بن عنفوة الذي يقال له الرجال بن

عنفوة، وكان ممن أسلم ثم ارتد وصدق مسيلمة لعنهما الله في هذه الشهادة، وقد رزق الله زيد بن الخطاب قتله قبل

أن يقتل زيد رضي الله عنه * ومما يدل على كذب الرجال في هذه الشهادة الضرورة في دين الاسلام، وما رواه

البخاري وغيره أن مسيلمة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم من مسيلمة رسول

الله إلى محمد رسول الله سلام عليك: أما بعد فإني قد أشركت معك في الامر، فلك المدر ولي الوبر، ويروى فلكم

نصف الارض ولنا نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله

الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الارض لله يورثها

من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ".

وقد قدمنا ما كان يتعاطاه مسيلمة ويتعاناه لعنه الله من الكلام الذي هو أسخف من الهذيان، مما كان يزعم أنه وحي

من الرحمن تعالى الله عما يقوله وأمثاله علوا كبيرا، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم زعم أنه استقل بالامر

من بعده واستخف قومه فأطاعوه وكان يقول:

خذي الدف يا هذه والعبي * وبثى محاسن هذا النبي تولى نبي بني هاشم * وقام نبي بنى يعرب فلم يمهله الله بعد وفاة

وفلق رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلا حتى سلط عليه سيفا من سيوفه، وحتفا من حتوفه فبعج بطنه،

وعجل الله بروحه إلى النار فبئس القرار، قال الله تعالى * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم

يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم

أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون

عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) * [ الانعام: ٩٣ ] فمسيلمة والاسود

وأمثالهما لعنهم الله أحق الناس دخولا في هذه الآية الكريمة، وأولاهم ﺑﻬذه العقوبة العظيمة * سنة ثنتي عشرة من

الهجرة النبوية استهلت هذه السنة وجيوش الصديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردة جوالون في البلاد يمينا

وشمالا، لتمهيد قواعد الاسلام وقتال الطغاة من الانام، حتى رد شارد الدين بعد ذهابه، ورجع الحق إلى نصابه،

وتمهدت جزيرة العرب، وصار البعيد الاقصى كالقريب الادنى، وقد قال جماعة من علماء السير والتواريخ: إن وقعة

اليمامة كانت في ربيع الاول من هذه السنة، وقيل: إﻧﻬا كانت في أواخر التي قبلها، والجمع بين القولين أن ابتداءها

كان في السنة الماضية، وانتهاءها وقع في هذه السنة الآتية، وعلى هذا القول ينبغي أن يذكروا في السنة الماضية كما

ذكرناه لاحتمال أﻧﻬم قتلوا في الماضية، ومبادرة إلى استيفاء تراجمهم قبل أن يذكروا مع من قتل بالشام والعراق في

هذه السنة على ما سنذكر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان * وقد قيل: إن وقعة جواثا وعمان ومهرة وما كان

( من الوقائع التي أشرنا إليها إنما كانت في سنة ثنتي عشرة وفيها كان قتل الملوك الاربعة ( ١) حمد ومحروس ( ٢

وأبضعة ومشرحا، وأختهم العمردة الذين ورد الحديث في مسند أحمد بلعنهم.

وكان الذي قتلهم زياد بن الانصاري.

بعث خالد بن الوليد إلى العراق لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة، بعث إليه الصديق أن يسير إلى العراق، وأن

يبدأ بفرج الهند، وفي الابلة، ويأتي العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا

أخذ منهم الجزية فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره أن لا يكره أحدا على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتد عن

الاسلام وإن كان عاد إليه.

وأمره أن يستصحب كل امرئ مر به

من المسلمين.

وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمدادا لخالد رضي الله عنه.

فقائل يقول قال الواقدي اختلف في خالد، : مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق، وقائل يقول: رجع من

اليمامة إلى المدينة ثم سار إلى العراق من المدينة فمر على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة.

قلت: والمشهور الاول.

وقد ذكر المدائني بأسناده أن خالدا توجه إلى العراق في المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن

قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة الشيباني.

وقال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان.

إن أبا بكر كتب ( ١) إلى خالد أن يسير إلى العراق فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها

بانقيا وباروسما، وصاحبها حابان، فصالحه أهلها.

قلت: وقد قتل منهم المسلمون قبل الصلح خلقا كثيرا.

وكان الصلح على ألف درهم ( ٢)، وقيل دينار * في رجب وكان الذي صالحه بصبهرى بن صلوبا، ويقال صلوبا

بن بصبهري، فقبل منهم خالد وكتب لهم كتابا، ثم أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع بيصة بن إياس بن

حية الطائي ( ٣) وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الاسلام فإن

أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم

أحرص على الموت منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.

فقال له قبيصة: ما لنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية.

فقال لهم خالد: تبا لكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها، فلقيه رجلان أحدهما عربي والآخر أعجمي

فتركه ( ٤) واستدل بالعجمي، ثم صالحهم

على تسعين ألفا ( ١)، وفي رواية مائتي ألف درهم، فكانت أول حزية أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي

والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا.